الثلاثاء، 15 نوفمبر 2016

هوة سحيقة.. متى تردم؟!

هوة سحيقة.. متى تُردم؟!


في الزمن الغابر كان أهل العلم خاصة الفقهاء منهم هم قادة المجتمع وموجهوه، وهم رواده ومعلموه، وكانت مؤلفاتهم ورسائلهم النابعة من القرآن والسنة هي المرجع لكل مسلم، ثم ما لبث أن ظهرت فئات منافسة تضخمت أعدادها ومؤسساتها يوما فيوما حتى غدت هي الأصل والموجه والمنظر الثقافي لشباب وعامة الأمة في الغالب، في حين انحسر دور أهل العلم وانكفؤوا على أنفسهم، وإذا بنا أمام فريقين: فريق يهتم بالتراث ومنجزاته ومناهجه، أضحى أسيرا له، يخطو حيث خطى ويقف حيث وقف، وتجد من يتشدد منهم فيحتج بالتراث في كل صغيرة وكبيرة دون إدراك لكثير من الملابسات التي اعترت بعض الأحكام التي أثر في صدورها عوامل الزمان والمكان والثقافة وغيرها، وفريق اشتط بعيدا فلم يأبه بأصول أو فروع، ولا يكاد يحسن التعامل مع كتاب شرعي، وبدلا من أن يتواضع قليلا فيتعلم إذا بها يسفه كل من ليس على شاكلته، والمشكلة أن هؤلاء أضحوا أشكالا متنوعة ومتباينة، وكما انقسم الفريق الأول إلى فرق ومشيخات ومرجعيات كان كذلك الفريق الثاني بل أشد.
لقد توسع الشرخ بين الفريقين ومع الزمن أضحى لكل فريق مرجعياته وكتبه ومناهجه ودوره، لكن -والحق يقال- إن الفريق الثاني نظرا لكونه يمتلك القدرة على مجاراة تطورات العصر التقنية وغيرها أصبح أكثر تأثيرا، وأعمق أثرا؛ وأوسع انتشارا، فلو نظرت مثلا إلى جوانب في الثقافة الإسلامية ستجد أن كثيرا من المؤلفات المعاصرة المتعلقة بهذا الجانب كتبت بأيدي من الفريق الثاني أو قريبين منهم، أقول هذا وبين يدي كتاب وهم الإلحاد لعمرو شريف، والذي قدم له الدكتور محمد عمارة، ومع احترامي للرجلين، فلهما جهود مشكورة لا تنكر لكن عندما تقرأ المقدمة تجد تأثرا واضحا بتيارات فكرية تاريخية كان لها نظير في الفلسفة الغربية، وتجد الكاتب يتبنى هذه الأفكار ويستشهد لها بأقوال من كانوا مصنفين في خانة البدعة كالجاحظ المعتزلي، وإذا بك تجد مقدمة الدكتور عمارة تركز بوضوح وبأسلوب غير مباشر على الشك وضرورته للوصول إلى العلم، وهذا إن صح في المعارف الدنيوية وبعض الدينية من الصعب جدا أن نجعله هو القاعدة المطردة في الوصول إلى مطلق المعرفة، يدل على هذا أن الإيمان بالله لا يشترط فيه ذلك، ولهذا أبعد من قال: إن الشك أول الواجبات كما ذهب إليه بعض الأشعرية والمعتزلة، وغالب ظني أن هذه الفكرة دخلت على الدكتور عمارة من قراءته في الفلسفة الغربية والتي أقنعته ببعض مدارسها وأفكارها فذهب يبحث عما يؤيدها في كتب التراث فوجد الجاحظ! فهذه المقدمة والكتاب المقدم له وغيره مثله كثير كانت تعالج قضية خطيرة في البيئة الدينية والثقافية الإسلامية وغيرها، وكتبت بأسلوب عصري قريب ومفهوم، ولهذا لا غرابة أن تجد بعض الشباب يقبلون على هذه الكتب واقتنائها وقراءتها وتبني ما فيها لكون هذه الكتب سطرت بأسلوب قريب إلى أفهامهم ولغتهم، ولهذا كان من الخطأ لومهم قبل لوم المختصين في العلوم الشرعية الذين قصروا في هذا الجانب وتركوا مجالات خطيرة أفضت بكثيرين إلى الانحراف، أو غلبة التصورات الفكرية الخاطئة في أحسن الأحوال، والتي منها النظر إلى علماء الشريعة بوصفها شريحة مزدراة أو جهولة لا تفقه في شؤون دنياها شيئا يذكر سوى معارف قديمة ليست سوى طلسمات تجاوزها الزمن، مع أنك لو فحصت ومحصت ستجد هذا التيار واقعا فيما هو أشد، إذ إنه وهائم بتراث الغير، مغتر به، متطلع إلى مثله، ومبهور بماديات الآخر وناسيا أو متناسيا تراثه العظيم الخالد، ومنبعه الأساس، والعجيب أنك تجد الكثيرين من هؤلاء يتدحرجون من فتنة إلى أشد منها، ومن جاهل إلى أجهل منه ثم يقعون بين براثن المعادين المتسترين ثم يشردون إلى غير رجعة.
إن هذه الهوة الواسعة التي غالبا ما تفضي إلى التشضي والتفكك يجب ردمها من خلال محاولة أهل العلم الشرعي خوض غمار الحياة المعاصرة بكل تجلياتها، وعدم الانزواء في المساجد أو الوظائف أو الحياة الخاصة التي يحيطهم فيها مجموعة من التلاميذ والمحبين، والتي قد تجعله في أحايين كثيرة لا يرى العالم إلا من خلال هؤلاء بل إنه قد يراهم كل العالم.
إن في خروج العالم الشرعي من شرنقته حياة له ولأمته، فهو إن أدرك وعرف وامتلك وسائل التواصل مع الناس بشرائحهم كافة امتلك زمام المبادرة، وأمكنه التغيير، وسدِّ أبواب من الشر كانت مشرعة، وكشف الله به غما كاد يحيق بقطاعات مجتمعية واسعة، ولأجل هذا وغيره كان شأن العلماء عظيما في دين الإسلام، ولأجل هذا وغيره ذكر بعض أهل العلم أن حبر العلماء أفضل من دماء الشهداء، لما في حبرهم من حياة أمم، ونجاتها دنيا وأخرى.
إننا إذا لم نتدارك أنفسنا بردم هذه الفجوة فإن العواقب وخيمة، وها نحن نرى بعض آثارها تتجلى يوما بعد يوم، فبعد أن كان الشاردون آحادا أضحوا مئات بل آلاف، وبدل أن كان انحرافا أضحى سلوكيا أضحى عقديا وثقافيا وفكريا إضافة إلى السلوك، وبدلا من الاعتداد بالدين والأمة، والثقافة العريقة أضحى الكثيرون مهزومين، كأن دينهم وثقافتهم عورة يستحون من إظهارها بله الدعوة إليها، يحاول بعضهم إخفاءها أو التنصل منها كأنما يتنصل من عيب لا يُغفر، ونجاسة لا تطهُر.
إني أهيب بأهل العلم ألا يستسلموا ولا يخضعوا لأولئك الذين يريدون حصرهم في زوايا معينة تحت أي مسمى كان، وألا يتركوا الساحات مفتوحة خاصة الإعلامية منها، والتي ولج منها الكثيرون ممن لا يحسنون، فعض بعضنا أصابع الندم بعد ذلك، وأهيب بغيرهم أن يتأنوا قليلا في تلقف كل ما هو جديد أو مخالف، فهم سيُحشرون ويُسألون، ولن ينفعهم التقليد أو الأعذار الواهية في قضايا خطيرة غامروا في خوضها دون أن يحسبوا العواقب، والله الهادي إلى سواء السبيل.

ليست هناك تعليقات

جميع الحقوق محفوظة لــ ردود على العلمانيين والملحدين 2015 ©