الأربعاء، 12 سبتمبر 2018

هل جمع السنة كان بدافع سياسي؟


 

خرج خالد من محاضرته الجامعية مسرعاً نحو المقصف ليأخذ شيئاً يسد به جوعه، وبعد أن انتهى من تناول الإفطار وتنفس نفساً عميقا رافعا برأسه إلى السماء إذا به يشعر بحركة بجانبه فالتفت مستغرباً وإذا بزميل له ينظر إليه قائلا: أنت تدوس على قدمي! شعر خالد بالخجل، فمن فرط جوعه لم يشعر بمن جواره ولا أين وضع قدمه..
ابتسم خالد وسلم على زميله واعتذر له، وتعرف عليه، وقبل أن يغادره لفت انتباهه كتاب كان يقرؤه زميله، سأله عن هذا الكتاب ومؤلفه، فقال زميله سالم: هذا كتاب: (الكتاب والقرآن)، لكاتب معاصر مشهور، وعبقري في الدراسات الإسلامية وأنا ككثيرين غيري نعتبره مجددا..
قال خالد: ألهذه الدرجة؟
أجابه سالم: نعم وزيادة، هل لديك الوقت لأقرأ لك شيئاً مما كتب هنا.
قال خالد: حسن، تفضل..
-   أنا الآن وصلت إلى ص566 والتي يقول فيها: "إن السبب لجمع الحديث أولاً وللتأكيد عليها ثانياً هو سبب سياسي بحت".
-   لحظة.. أعد..
فأعاد سالم عبارة الكاتب مرة أخرى، فضحك خالد، وقال:
-   سبحان الله.. عجيب هذا الأمر!
-   ولمه؟
-   هل تعرف أول من قال بهذا الكلام، وهو أن الدافع لتدوين السنة كانت هي السياسة ولا شيء غيرها.
-   لا.. لا أدري.. أليس هذا الكاتب هو أول من اكتشف هذا؟
-   لا.. ليس هو، ما هذا الكاتب إلا مجرد رجع صدى لغيره، إن أول من قال هذا الكلام هو المستشرق المجري (جولد تسيهر) في كتابه (دراسات محمدية)، وكتب حوالي (130) صفحة يحاول فيها إقناع القارئ بأن السلطة كان لها دور فعال في وضع الأحاديث التي تخدم مصالحها، وهوّل الأمر وعظّمه وضخمه، وقد تبعه على هذه الفرية بل وتضخيمها أيضاً كتّاب معاصرون كثيرون منهم صاحب كتابك هذا.
استغرب سالم من هذه المعلومة إذ إنه كان يظن أن هذه الفكرة من اكتشافات كاتبه المفضل: صاحب الكتاب الذي يقرؤه، وإذا به مجرد رجع صدى باهت لتلك الكتابات ثم انتبه من استغرابه، والتفت إلى خالد، وقال: وما الضير في ذلك إذا كان هذا هو ما قاله المستشرقون، فهذا بحث علمي ولا علاقة بكون قائله مستشرق أو لا..
قال خالد: أحسنت، لكن من المهم أن تفهم أولا من صاحب هذه الفكرة وناشرها؛ لأن هذا يكشف لك جانبا عن خلفية الكاتب وتوجهه ومرجعيته، ومن يخدم بكتابه هذا، أما بالنسبة لكونه بحثاً علمياً فهذا يصح لو اتبع المستشرق وكاتبك الأساليب العلمية وتجردوا من أهوائهم ودسائس أنفسهم، أما أن يخضعوا لسوابق أفكارهم أو لأهوائهم فهذا غير مسموح به في البحث العلمي بل إنه ينزل من درجة الباحث ويضعه موضع الاحتقار..
قاطعه سالم: حسن، وما المعايير العلمية التي لم يلتزموا بها.
-   أقول لك: أولا: هم أطلقوا دعوى عريضة جداً ولم يستندوا إلى أدلة واضحة صريحة، وأنت تعلم أن الدعوى حتى وإن كانت صغيرة لم يكن بد من التدليل عليها، وهذه قاعدة مهمة، وقد أفادتني كثيرا جدا مع هؤلاء، وهي المطالبة بالدليل الصحيح الصريح، أما مجرد الدعوى فهذا يحسنه كل أحد..
نظر سالم في الكتاب مجريا نظره على السطور التالية علّه يجد ما يدلل به الكاتب على دعواه فلم يجد إلا توكيدات ودعاوى إضافيكل واحدة منها تحتاج إلى إثبات ثم قال: فهمت هذه النقطة، وثانيا؟
-   ثانيا: بالنظر العقلي المجرد لو كانت الدافع السياسي هو السبب الرئيسي لتدوين السنة فإن من الطبيعي أن تكون الأحاديث التي تريدها السلطة كثيرة جدا سواء كانت صحيحة أم مكذوبة، بل إن الكثيرين من العامة والمنتفعين سيضعون الأحاديث في سبيل إرضاء السلطة.. أليس كذلك؟
-   نعم، ولهذا هناك الكثير جدا من الأحاديث التي وضعها الوضاعون لتأييد السلطات القائمة آنذاك: الأموية والعباسية؟
ابتسم خالد قائلا: ما قلتَه هو مجرد دعوى، وقد ذكرتُ لك سابقا ضرورة ذكر الدليل، وفي كلامك هذا لا يمكن أن يقال إلا بدراسة لكتب الموضوعات لنرى مقدار هذه الأحاديث، فإن كانت أغلب السنة كذلك حكمنا بصدق المستشرق وأتباعه، وإن كان غير ذلك عرفنا ما الذي يريدونه، وأعيد القول: الأصل ألا نطلق الدعاوى بلا أدلة أو دراسة متأنية، وإلا فإننا في حقيقة الأمر أسرى أهوائنا وعواطفنا وأفكارنا المسبقة..
-   حسن، حسن.. أكمل.
-   من أجل أن نعرف صدق دعوى تسيهر وأتباعه من عدمها سنرجع إلى أشهر كتاب، بل ويعد من أضخم الكتب التي جمعت الأحاديث المكذوبة، وهو كتاب الموضوعات لابن الجوزي، وبمراجعتها يتبين أن عدد المتون في فضائل معاوية ستة متون بعشرين إسناداً، وفضائل العباس ستة متون أيضا في أربعة عشر حديثاً، وعدد المتون في ذم معاوية ثلاثة متون في سبعة أسانيد، وفي ذم العباس ثلاثة متون، أي أن مجموع هذه الأحاديث (44) حديثاً من كلا الطرفين: المادحين والذامين، ونسبة هذه الأحاديث لمجموع أحاديث الكتاب البالغ (1847) هي (4.2%)، هذا إذا اعتبرنا أن السياسة كانت هي الدافع لوضع تلك الأحاديث، لاحتمال أنها وُضعت عصبية أو نقمة شخصية أو نعرة عنصرية أو غير ذلك، كما أن الفضائل قد نالت صحابة آخرين لم يكونوا ساسة يوماً، فكيف يقال بعد هذا: إن الدافع لجمع السنة هي السياسة فحسب..
-   أطرق سالم مذهولا مما سمع، فهو لم يكن يدرك أبعاد قول الكاتب، ولا كيف يمكن أن يحاكم قوله والأقوال المشابهة له ويمحصها، وهو الآن ولأول مرة يعرف طريقة جديدة لنقد أقوال كاتبه المفضل، بل ونقداقوال من نقل عنه كاتبه هذا، أعاد سالم فتح الكتاب وقرأ الجملة بصوت منخفض: "إن السبب لجمع الحديث أولا وللتأكيد عليها ثانياً هو سبب سياسي بحت" بحت.. بحت، وخرجت منه ضحكة مكتومة، قال في نفسه: يا إلهي.. كيف أراد هذا الكاتب أن يضيع شطر الدين بجملة اقتبسها من أعداء الدين، إنه يقدم لي دعوى تطيح بآلاف الأحاديث بحجة عشرة أو عشرين حديثا موضوعة وقد نبه عليها العلماء والمحدثون منذ قرون، وضم شفتيه وهز رأسه.. حقيقة إنه لأمر عجيب..
وضع خالد يده على كتف سالم مربتا عليه، وسائلا له: ما بك؟
-   لا أدري، كأن الدنيا دارت بي، عجبت كيف يمرر هؤلاء شبهاتهم علينا ونحن نحسبهم مفكرين، إنهم يستغلون قلة بضاعتنا في العلم الشرعي، لا أدري من السبب في ذلك هل هم السبب أم الإعلام الذي قدمهم لنا بصورة نموذجية مؤثرة، أم نحن ولهثنا وراء حب المخالفة والظهور بمظهر المثقف والمفكر والناقد؟ لا أدري، لكن ما أدريه الآن أن الصفحات الـ(566) التي قرأتها من هذا الكتاب ليست ذات بال، بل قد تكون سموما تشربتها فتسمم بها فكري وروحي بل وحياتي كلها دون أن أدري!
ما أدريه الآن أني أضعت ساعات طوال في قراءة ما لو قرأت به آيات من كتاب الله أو أحاديث من كلام رسول لله لحصلت على الأجر الوفير، ولتطهرت روحي من كثيرمن الأدناس التي تعلق بها بفعل أفعالي التي تراكمت عبر السنين الخالية، ولزاد إيماني ويقيني بربي.
ما أدريه أني لو اجتهد في قرأة الكتب المفيدة التي ترسخ إيماني وتزيد معرفتي الحقيقية التي تسعدني في دنياي وآخراي لكان خيراً لي..
ما أدريه هو أنني وضعت عقلي وقناعتي رهناً لكاتب لا أهرف عنه شيئاً إلا من خلال ما يكتب، وإذا كنت لن أقبل حديثا عابرا عن شخص مجهول إلا بدليل أراني أقبل قول هذا الكاتب وأمثاله بلا أدلة رغم أنها تمس وجودي برمته!
نظر خالد إلى سالم مبتسما قائلا: لا تبتئس، فكلنا ذوو خطأ، والمهم ألا يكابر الإنسان ويعاند، ووالله إن الحق أبلج، ولكن النفوس تراه بحسب قربها وبعدها من الله، وبحسب سماكة وخفة الغشاوة التي على بصائرها، وبما أنك قد عرفت الحق فهذا فضل من الله سبحانه.. بقي أن أسألك سؤالا: نحن إذا أردنا أن نعرف حال فكرة ما هل نقرأ عنها من كتب أعدائها أو أصحابها؟
-   لا شك أن قراءة كتب أتباع هذه الفكرة وحامليها والمؤيدين لها هو الأصح والأسلم.
-   حسن، فكيف لكانت هذه الفكرة هي دينك، وتتعلق بديناك وآخرتك، إنها بلا شك ستكون جديرة بالقراءة والبحث والتنقيب وسؤال المختصين والتشبع منها وأحلها ودلائلها وغاياتها، ونظرتها للإنسان والكون، فلكل دين أو فلسفة تصور خاص نحو الإنسان والكون والحياة برمتها.. والمشكلة عزيزي أننا في تعاملنا مع ديننا نخالف المعقول الذي ذكرته فنقفز على الكتب التي تعرض لنا وجهة نظر ديننا بأجلى صورة في جميع المسائل الحياتية، كما تعرض لنا الجوانب المتعلقة بخدمة هذا الدين عبر العصور المتلاحقة..
قاطعه سالم: لكن قراءة هذه الكتب فيه صعوبة شديدة.
-   أنا لا أعني كتب التراث فقط، فهناك كتب معاصرة كثيرة مفيدة وتعطي القارئ تصورا واضحا حول كثير من الجوانب، ففي حجية السنة مثلا: يمكنك قراءة كتاب (السنة النبوية ومكانتها في التشريع) لمصطفى السباعي، و(زوابع في وجه السنة) لصلاح الدين مقبول، و(أبو هريرة راوية الإسلام) للأعظمي، و(الأنوار الكاشفة) للمعلمي، وغيرها كثير، والآن تقوم الشبكة العنكبوتية بالكثير في هذا المجال.. لكننا للأسف كثيرا ما نستخدمها فيما يضر أو ما لا يضر ولا ينفع، أما مثل هذه القضايا المصيرية فكثيرا ما نتجنب البحث عنها ونكتفي بأن نجعل عقولنا نهباً لكتاب مجهولين وظيفتهم تعريب الأفكار الداخيلة وتقريبها لنا في قوالب نظيفة، أتدري؟ لقد شبه الشيخ الغزالي كتابات المستشرقين وبالطبع أتباعهم مثلهم لقد شببها بروث في كيس من السلوفان، أي أن المنظر الخارجي والغلاف الذي تغلف بها الأفكار جميل وماتع ولكن ما تحمله من أفكار تطيح بحياتك وآخرتك، بل وتتبناها وأنت تبتسم وتحسب نفسك على شيء!
قم يا صديقي، فقد حان وقت المحاضرة..

ليست هناك تعليقات

جميع الحقوق محفوظة لــ ردود على العلمانيين والملحدين 2015 ©